الأربعاء، 18 أبريل 2012

اوجاعنا





سيرة الأوجاع النوبية مع السدود"يرويـها "

"شيخ نوبـي ستيني من غمار الناس "


"عزيزي القارئ "
هذه أنفاس حرى
تنفيساً لما يعتلج في الصدر من مرارة الإحساس بالإشفاق على مصير طائفة ثانية من النوبة سوف تتعرض إلى مأساة أخرى من مآسي التهجير القسري .
تطاولت على الكتابة رغم أني لا أملك أدواتها .
لأن الصمت صفة لا تليق بالرجال في مثل هذه الأحوال .
فإذا وجدت فيما قرأت ما يستحق أن يعلمه غيرك فصور أي عدد تستطيعه ووزعه على الأشخاص الذين تري أنهم يستحقون أن يعلموا ما علمت أو مرر هذه النسخة لأحدهم .
وتمثل معنا بالمثل النوبي "أن تفعل أمراً تندم عليه خير من ان لا تفعله وتندم "
وشكراً على مساهمتك الايجابية بإشعال شمعة تلقى ضوءاً على مأساتنا لنخلق معاً رأياً عاماً مناهضاً لتلك السدود اللعينة


محمد عبد الخالق عبد الله




أصــل النوبـــــة
بعد الطوفان الكبير
جاء أمر الله سبحانه وتعالى " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " صدق الله العظيم
وبدأت دورة الحياة في الأرض من جديد وبعد أن استقرت طائفة المؤمنين تناسلت وتكاثرت وانتشرت في الأرض.
في التوراة وفي سفر التكوين ان أولاد سيدنا نوح الذين خرجوا معه من الفلك هم:حام وسام ويافث .
ومن أولاد حام : كوش ومصريام وكنعان .
ومن نسل كوش أتت النوبة والبيجه وما وراؤهم من الأمم الأفريقية .
والنوبة أسسوا الممالك العظيمة كوش ونبتة ومروي وعلوة والمقرة ونوباتيا وهذه الممالك كانت من القوى العظمى فى العالم المتحضر في تلك الأزمان .
ورد في سفر اشعياء في التوراة "ان الملك حزقيال ملك يهوذا كون حلفا مع شبيكو ملك كوش وأمير مدينة صور الفينيقية لمحاربة سنحريب ملك آشور ".
وورد في كتاب تاريخ السودان القديم للدكتور محمد إبراهيم بكر " أن الملك كوماسي ملك مصر حوالي عام 1730 ق م أسر مبعوث ملك الهكسوس الذي كان يحمل رسالة إلي ملك كوش يعرض عليه الصلح وتقسيم ارض مصر بينهم "

وتشهد مئات المواقع الأثرية مثل الاهرامات والمعابد والقلاع والكنائس والمساجد وكذلك عشرات المخترعات والاكتشافات مثل الساقية والشادوف والمحراث اليدوي وحروف الابجديه المروية وتعدين الذهب وتصنيع الحديد على إسهاماتهم الحضارية في تطور الجنس البشري .
والنوبة ليست قبيلة بل هي الأمة التي كانت تسكن أرض النوبة الواقعة من أسوان شمالاً "الحدود الشمالية التاريخية للنوبة " إلى الحدود الحبشية في الجنوب الشرقي إلى جبال النوبة في الجنوب الغربي ونهر عطبرة شمالاً وشرقاً حتى الحدود مع قبائل البيجه " حدود مملكة علوة كما أورده المؤرخ والرحالة العربي إبن حوقل عام 950 م ".
وقد أطلق عليهم اليونان اسم اثيوبيا " ذوي البشرة السمراء " وأطلق الفراعنة علي أرضهم في مرحلة ما اسم تانحسي "أرض السود " وفي الإنجيل هم الحبشة وفي التوراة الكوشيون وأخيراً أطلق عليهم العرب اسم السودان .
وكما هو معروف فقد دخل العرب إلى السودان عام 652م بعد اتفاقية البقط المشهورة ، ولكن ظلت الممالك النوبية المسيحية قائمة حتى سقوط دنقلا عاصمة مملكة المقرة عام 1317 م وسوبا عاصمة مملكة علوة عام 1504م .
وكانت القبائل العربية تساكن النوبة في مملكة علوه في أمان رغم أن اتفاقية البقط لم تكن ملزمة لمملكة علوه لأنها كانت موقعة مع مملكة المقرة "والتي كانت حدودها الجنوبية تمتد حتى نهر عطبرة " مما يوضح روح التسامح الديني والسلام الإجتماعي السائدين في تلك المملكة ، بل ان أبن حوقل ذكر أن ملكاً مسلماً يتكلم العربية كان يحكم منطقة وادي تفلين تابعاً لملك علوه .
وقد امتاز النوبيون علي مر الأزمان بصفاتهم الأخلاقية الحميدة .
أورد الدكتور محمد إبراهيم في كتابه الآنف الذكر ما يلي " اكتسب أهل كوش منذ القدم شهرة كمحاربين شجعان كما امتازوا بالأمانة والإخلاص مما مهد لهم تولي مناصب قيادية هامة في جهاز الدولة المصرية " وقد أورد تفاصيل عن أولئك الرجال .
كما أوردت التوراة ما يلي "إن عبد ملك الكوشي كان من خاصة الملك صدقيا ملك مملكة يهوذا " وقد أوردت تفاصيل إنقاذ النبي أرميا من الجب بواسطة عبد ملك الكوشي ".
كما أورد المؤرخ الإنجليزي المشهور آرنولد توينبي في كتابه "من النيجر إلى النيل" ان النوبيين من أكثر الشعوب أمانةً ودماثة خلق وأنه َيكن لهم تعاطفاً خاصاً.
النوبة وعلاقتهم بالسودانيين المعاصرين :
رغم أن بعض النوبة استعربت نتيجة التزاوج مع العرب كقبائل الشايقية والجعليين وغيرهم إلا أن المنطقة الممتدة من مدينة أسوان شمالاً حتى مدينة الدبة جنوباً حافظت رغم أنها أسلمت علي هويتها النوبية لذا تقاصر اسم النوبة فأصبح يطلق علي السكان في تلك المنطقة ، وكذلك علي جيب آخر في جبال النوبة .
وكما أثرت الثقافة العربية الإسلامية على الثقافة النوبية فإن تأثير الثقافة النوبية مازال واضحاً على ثقافة تلك القبائل المستعربة ، ففي لهجاتهم العربية عشرات الكلمات وتراكيب الجمل ذات أصول نوبية وكثير من عاداتهم وتقاليدهم ذات جذور نوبية بل ان الطبائع والصفات النوبية واضح جداً في سلوك السودانيين المعاصرين ، فصفات مثل الكرامة والصراحة والإخلاص والتواضع والتسامح والأمانة والكرم الطبيعي الذي لا ينشد المدح من أخص الصفات النوبية التي عرفوا بها عبر التاريخ وشهد بها المؤرخون والرحالة ، والتي نشأت لديهم نتيجة إعتناقهم الديانات السماوية الكبرى اليهودية والمسيحية والدين الإسلامي الحنيف ، وهذه الصفات والعادات والتقاليد هي التي امتاز بها السودانيون في الدول العربية عن أقرانهم العرب من الدول العربية الأخرى .
ورغم أن العلم الحديث قد توصل نتيجة عمل تحاليل الحمض النووي (dna) للمجموعات الاثنية السودانية "القبائل" إلي أن هنالك علاقات جينية بين النوير والعركيين والجعليين والدينكا والزغاوة والفور والمساليت من جهة والنوبيين في الشمال من جهة أخرى كما أعلن ذلك الدكتور هشام يوسف الأستاذ بجامعة الخرطوم المتخصص في علم الوراثة ، فإن القبائل المستعربة تتبرأ من أصلها النوبي وتلجأ دائماً إلى الافتخار بأصولها العربية حتى ان كل قبيلة من تلك القبائل تكابد ظهر الزمن إلى الوراء مئات القرون حتى تلحق نسبها ، إلى قبيلة قريش وإن لم تكن فإلى الأوس والخزرج .
لذلك لا تجد إلا قلة من المثقفين السودانيين المعاصرين تهتم بدراسة تراث الحضارة والثقافة النوبية ، فكما ذكر الأستاذ حسن دفع الله في كتابه "هجرة النوبيين" فإنه عندما تعرضت كنوز الحضارة النوبية نتيجة النكبة الرابعة ببناء السد العالي ، وأطلقت هيئة اليونسكو نداء استغاثه لإنقاذ آثار النوبة عام 1960م استجابت اثنتين وعشرون بعثة من جامعات العالم من سبعة عشر دولة من بينها جامعة غانا ولكن لم تكن من بين تلك الجامعات جامعة الخرطوم !!
والآن تجري أحداث النكبة الخامسة ببناء خزان مروي في إحدى معاقل الحضارة السودانية القديمة
ولا نسمع أي اهتمام في أي من أجهزة الإعلام أو أي تحرك من المثقفين لإنقاذ جزء من آثار حضارة نبتة العظيمة قبل أن تبتلعها المياه إلى الأبد.
والنكبة السادسة لتراث الحضارة السودانية آتية بقيام سد كجبار وكذلك السابعة بقيام سد دال والتي سوف تقضي ألي الأبد علي آثار هامة من آثار الحضارة السودانية القديمة .
مأساة النوبة مع السدود :
بدأت مأساة النوبيون مع السدود منذ عام 1902م عند قيام سد أسوان وتعليته في الأعوام 1912م و 1932م وجاءت الطامة الكبرى ، بإنشاء السد العالي الذي اغرق المنطقة النوبية كلها في مصر وحوالي 150 كم طولي من المنطقة النوبية في السودان حتى الشلال الثالث عند قرية دال والذي من المقرر أن يقام فيها سد دال ليتم إغراق المنطقة حتى الشلال الرابع عند قرية كجبار والذي سيقام فيها ايضاً سد كجبار ليتم إغراق كل منطقة السكوت والمحس .
فالسد العالي اغرق أراضي ثلاثة مجموعات من المجموعات الستة التي يتكون منها باقي الشعب النوبي وهم الكنوز والفادِجا في مصر والحلفاويين في السودان وسوف يقوم سد دال وكجبار بإغراق ارض السكوت والمحس لتتبقى فقط ارض مجموعة واحدة هم الدناقله .
ولا نعلم في هذا العالم ان شعباً تعرض للتهجير القسري من أرضه التاريخية 6 مرات من اجل إقامة السدود ويصاب بأفدح الخسائر في أرضه التاريخية التي عاش فيها وأجداده آلاف السنين وفي ممتلكاته من ارض وبيوت ونخيل ونمط حياة فريدة تتسم بالأمن والهدوء ونظام تكافل اجتماعي قل نظيره وتتعرض بنيته الاجتماعية وهويته الثقافية والحضارية إلي خلخلة تعرضها للفناء الأبدي مما يمثل إحدى المظالم الإنسانية الكبرى ، يماثل الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون والهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين .
وفوق ذلك يفقدون إلى الأبد كنوزهم الأثرية التي تركها الجدود منذ آلاف السنين والتي تمثل أهم المصادر الأساسية لتاريخ وتراث الحضارة السودانية القديمة.
فمن المعروف ان المخلفات الأثرية تمثل المصادر الرئيسية لتاريخ السودان القديم لأن المصادر المكتوبة شحيحة والمصادر الأساسية تعتمد علي كتابات الرحالة الإغريق والرومان والعرب وما سجله الملوك المعاصرين لحروبهم ضد النوبة مثل الفراعنة والهكسوس والآشوريين ، لذلك فإن المخلفات الأثرية التي اندثرت في بحيرة السد العالي والتي سوف تندثر نتيجة سدي دال وكجبار لا تقدر بثمن .
أهمية الكنوز الأثرية في المناطق المعرضة للغرق :
لم يتم عمل مسوحات أثرية لمنطقه السكوت والمحس حتى الآن ولم يتم التنقيب إلا في مناطق محدودة في جزيرة صاي وصلب وتنبس رغم إن المنطقة على طول أكثر من 200 كم كنز من كنوز الحضارة الإنسانية ويكفي للدلالة على أن هذه المنطقة تخزن في باطن أرضها آثار كثيرة وهامة جداً قول رئيس البعثة الفرنسية التي قامت بالتنقيب في جزيرة صاي بأنهم يحتاجون إلى أكثر من 200 عام للمسح والتنقيب عن آثار جزيرة صاي فقط وصاي هذه جزيرة لا تزيد مساحتها عن 60 كيلو متر مربع فكم من القرون يحتاج المسح والتنقيب عن آثار منطقة السكوت والمحس ؟!
فإذا كان المسئولون عن قرارات إقامة هذه السدود لا يعلمون القيمة التاريخية والثقافية لهذه المنطقة المعرضة للغرق فتلك مصيبة وإذا كانوا يعلمون ولا يبالون فالمصيبة أعظم .
وهو ما قد يزيد من ارتياب النوبيون من إقامة أربعة سدود في منطقة الحضارة النوبية ويزيد من شكوكهم في أهداف قيام هذه السدود ويعيدون قراءة التقارير الدولية التي تقول "ان هنالك سياسات متعمدة لتفريغ الأراضي النوبية عن طريق الحرمان الدائم من التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإن قيام سدود أخري في الأراضي النوبية يعني تحطيم استقرار المنطقة في محاولة لتغيير بنية المجتمع النوبي بالقوة " ، وهو ما جاء بالحرف الواحد في تقرير المنظمة الدولية للازمات الصادر في يوليو 2003م .
لاسيما وان هذه السياسة تطبق الآن فعلاً علي النوبيين المصريين كما ورد في برنامج تلفزيوني في قناة دريم المصرية التي استضافت مجموعة من أعيان النوبة ذكروا فيها أن فئة المغتربين عند التهجير لم يصرفوا حقوقهم حتى الآن وإن الحكومة المصرية أصرت علي إسكان بعض البدو من غير النوبيين معهم في القرى الجديدة التي أقيمت حديثاً حول بحيرة ناصر وذلك في محاولة لتغيير الهوية النوبية .
شكوك وتساؤلات مشروعة :
ان ما يدعوا النوبيون إلى الشك والريبة التكتم الشديد وعدم الشفافية التي تتم بها الدراسات الخاصة بسدي كجبار ودال ، فرغم أن القرار الجمهوري بتكوين المؤسسة العامة لإقامة سد كجبار صدر في يونيو 1995م ومن مهامها عمل الدراسات اللازمة وتبصير المواطنين بأهداف المشروع ودورهم الوطني بالتضحية في سبيل تنفيذ هذا المشروع الحيوي ، ورغم تأكيد الفريق عبد الرحيم محمد حسين في لقائه بأبناء النوبة بالسعودية باكتمال الدراسات الخاصة بسد كجبار فإنه لم يتم إلى الآن حتى تبصير المواطنين بدورهم الوطني بالتضحية كما امر الأمر الجمهوري فضلاً عن أخذ رأيهم وتنويرهم عن مصيرهم كما يستدعي ذلك ابسط قواعد العدالة الإنسانية وكما تطالب بذلك موجهات اللجنة الدولية للسدود .
وأكثر ما يريب المواطنين المعالجة الأمنية العنيفة التي تمت لدرجة إطلاق النار علي احتجاجات سلمية أدت إلى إراقة دماء زكية في كجبار ، وكذلك اعتقال عشرات المواطنين ومنع الصحفيين من الوصول إلى منطقة الحدث واعتقال بعضهم وعدم الكشف عن نتائج التحقيقات حتى الآن رغم أن الحدث تم تصويره وبثت صوره عبر الانترنت في حينه وكذلك منع الموفدة الأممية لحقوق الإنسان السيدة سيما سمر من زيارة المنطقة ، وكذلك منع الاجتماعات العامة في المنطقة كلها وتكوين لجان صورية من أعضاء الحزب الحاكم من الموظفين الذين يسهل الضغط عليهم مما يوحي أن أمراً ما يحاك في الخفاء !


نداء إلى المثقفين السودانيين:
مهما يكن الأمر فالظلم لابد أن يزول والجراح يمكن أن تندمل ولكن ما لن يزول أبداً الندم والحسرة إذا ابتلعت مياه السدود المخلفات الأثرية التي لا تقدر بثمن وهذه الكنوز الأثرية لا تخص النوبيون وحدهم بل هو جزء من مصادر تاريخكم وتراثكم وحضارتكم بل تراث الإنسانية لأنه في المنطقة الوحيدة التي تم فيها التنقيب في منطقة السكوت وهي جزيرة صاي اكتشفت البعثة الفرنسية أقدم أثر لإنسان العصر الحجري القديم في افريقيا وبما أن مهد الإنسان الأول هو افريقيا كما هو معروف وخاصة شرقها وبالأخص السودان واثيوبيا فربما كان هذا الأثر أقدم اثر لذلك الإنسان في العالم ، وكما اكتشفت البعثة مظاهر وعلامات دينية لدى ذلك الإنسان مما يعني أن بداية تكون الوعي الديني والضمير الإنساني ربما كان هنا في السودان !!
وإذا تم اكتشاف تلك الحقيقة التاريخية المذهلة في موقع واحد فماذا يمكن أن تكتشف من حقائق عن مسيرة الإنسانية علي طول حوالي 200 كم من الأراضي المعرضة للغرق ، والذي لا يخلو كيلو متر واحد منها على مواقع أثرية لم تكشف النقاب عنها وكم ستخسر المعرفة الإنسانية إذا طمست هذه المواقع في مياه السدود دون الكشف عنها .
إن هذه المنطقة تجسد بوضوح مدى ارتباط عبقرية الجغرافيا بالزمن فهي عبارة عن شريط ضيق من الأراضي الصالحة للنشاط البشري علي ضفتي النيل تحرسها شرقا وغرباً الجبال الصخرية والصحارى العظيمة التي يصعب علي الغزاة اختراقها وتحرسها شمالاً الجنادل( الشلال الأول في أسوان) لذلك كانت حواضرها تتجه دائماً إلى الجنوب ، كرمه ثم نبتة ثم مروي ثم سوبا .
ورغم ذلك لم ينقطع النشاط السكاني في هذه المنطقة الضيقة منذ آلاف السنين ، منذ عهد الإنسان الأول القديم لذلك فإن أرضها كلها طبقات من المخلفات الأثرية ، فكثيراً ما يجد المواطنون العاديون أواني فخارية أو أدوات حجرية أو هياكل عظيمة عندما يقومون بالحفر لوضع الأساسات لمنازلهم الجديدة .
وهذه الآثار الهامة الظاهرة والمدفونة لا يمكن إنقاذها بالنقل ولو اجتمعت بعثات العالم كلها ، فهل يمكن أن يسع الوقت إذا بدأ تنفيذ تلك السدود ؟
إن التنقيب عن الآثار يحتاج إلى وقت طويل وصبر جميل وجهد جهيد وأموال طائلة ولا يتم إلا في موسم الشتاء بسبب الحرارة العالية في هذه المنطقة .
وإذا تم إنقاذ بعض تلك الآثار فلا يمكن إنقاذ ونقل المواقع الأثرية الثابتة مثل المعابد والقلاع والكنائس والمساجد والقباب وعشرات الأنفاق والممرات الجبلية وآلاف المقابر وسوف نفقد كل تلك الكنوز الي الأبد كما حدث عند بناء السد العالي ، فمن بين ألف موقع حددته البعثات التنقيبية لم يتم إنقاذ إلا عدد قليل من المواقع ، وهاهي بعثة متحف قدانسك البولندية تعلن في تقريرها انه بالرغم من أن المسوحات التي قاموا حددت 762 موقعاً أثرياً في المنطقة المتأثرة بخزان مروي فإنهم لم يستطيعوا إنقاذ أكثر من 38 موقعاً ، وبذلك ضاعت مصادر مهمة من تاريخ السودان القديم مما يعد خسارة فادحة للعلم والمعرفة الإنسانية .
ولا يحقرن احد فداحة ضياع تلك المواقع فرب كشف اثري واحد يغير مفاهيم تاريخية راسخة ، فمثلاً كشف آنية فخارية في قرية قسطل ( وهي آخر قرية نوبية في حدود مصر الجنوبية ) أدى الى تغيير في المفاهيم التي كانت سائدة لدى علماء الآثار والمؤرخين عن الحضارة السودانية .
فكما جاء في مقال كتبه الدكتور المرحوم أحمد الطيب زين العابدين في مجلة كانت تصدر في السودان ربما كان اسمها "سنابل" فقد كانت تلك الآنية تحتوي علي رسومات لملك ذو ملامح نوبية يجلس علي عرش وفي اعلي النقش صورة طائر يشبه كثيراً ملامح وجه حورس أحد أهم رموز الآلهة المصرية القديمة ، ولما كان الإناء المذكور اقدم من أي آنية فخارية اكتشفت في مصر القديمة، فإن الاستنتاج التاريخي المنطقي كان ان النوبيين عرفوا نوع من نظام الحكم الملكي والوعي الديني قبل الدولة المصرية القديمة مما يدل علي أن الحضارة النوبية ربما كانت اسبق للحضارة المصرية وإن الحضارة انتقلت من الجنوب الي الشمال عكس المفاهيم التي كانت سائدة حتى ذلك الوقت من أن الحضارة السودانية تابعة للحضارة المصرية ، وهو ما أدى بدوره الي الكشوفات الأثرية الهامة في كرمة والتي أكدت استقلالية الحضارة السودانية القديمة .
أما الاكتشافات الأثرية التي تمت علي يد البروفسير السويسري عن حضارة كرمة واقيم لها متحف في كرمة افتتحه السيد رئيس الجمهورية ، فمن المؤسف إن الإنسان العادي من أمثالنا لا يعلم عن محتوياتها شيئاً رغم ما يقال عن أهميتها التاريخية في تأكيد ريادة الحضارة السودانية لأن أجهزة الإعلام لم تعطها الاهتمام اللازم .
وإنه من العجب حقاً ان لا تجد مثل هذه الاكتشافات الهامة اهتمام الإعلام السوداني والمثقفين السودانيين والتي تفخر بمثلها كل شعوب العالم .
إن الاهتمام بدراسة التاريخ ليس شيئاً لا طائل من ورائه بل هو مهم جداً لأخذ العبر من أحداثه ومهم أيضاً لفهم الحاضر ، لقد ذكر الدكتور محمد إبراهيم بكر عن أهمية دراسة التاريخ في مقدمة كتابه (تاريخ السودان القديم) ما يلي " إن دراسة التاريخ القديم لأي أمة لهي المدخل الطبيعي لتفهم حاضر شعبها فلا جدال ان في كيان كل منها شئ ما من تراث الحضارة التي ابتدعتها فكرة أجدادنا وعملهم منذ آلاف السنين ولاشك أن ذلك التراث يخلف صدى في ضمير أحفادهم " .
والإرث الحضاري لأي شعب هو الذي يعطي الإنسان الإحساس بالعراقة وإنه إنسان له جذور قوية في الأرض مما يقوي شعوره بالانتماء ويعطيه الثقة بالنفس للتطلع بأمل إلى المستقبل لتحقيق انجازات حضارية جديدة .
لذلك قال السياسي الانجليزي الشهير ونستون تشرثل

"كلما أطلت النظر في الماضي كلما رأيت ابعد في المستقبل "
لذلك فإن انقاذ المواقع الاثرية النوبية وهو كما قلنا المصدر الاساسي لتاريخ السودان القديم ضروري ليس من اجل الافتخار بإنجازات أجدادنا بل لفهم حاضرنا لبناء مشروع نهضة السودان ، سواء لبناء مشروع السودان الجديد أو بناء المشروع الحضاري أو أي مشروع آخر، لأن الذي لا يملك الثقة الكافية في نفسه لا يمكن أن يحقق أي أنجاز حضاري .
فهل يمكن إنقاذ على الأقل الآثار الظاهرة إذا أقيمت تلك السدود بالنقل ؟
بالطبع لا يمكن نقل كل المعابد والقلاع والكنائس والمساجد خاصة آثار العهد المسيحي والإسلامي لأنها مبنية بالطوب الأخضر كما قلنا من قبل ،ولكن بالطبع يمكن نقل بعض تلك الآثار بتكلفة عالية جداً كما حدث لمعابد أكشة وبوهين وسمنة والتي تم فك بعض أجزائها وإعادة بنائها ، داخل جملونات أقيمت في ساحة المتحف القومي ، وكذلك اللوحات الجدارية الملونة لكنيسة فرص والتي نقلت لصالة خاصة بالمتحف القومي .
ولكن كما قلنا فإن ارتباط عبقرية المكان بعبقرية الزمان ضرورية جداً للحفاظ على القيمة السياحية للآثار فكم يا ترى كانت سوف تكون القيمة السياحية لتلك المعابد واللوحات الملونة الضخمة والتي ذكر الدكتور محمد إبراهيم بكر أنها من أقدم المصورات المسيحية على الإطلاق ؟ وكم كانت ستدر من أموال لو بقيت في أماكنها الأصلية ؟
لكل الأسباب التي ذكرناها فإن ما بقي من الأراضي النوبية وما تختزنها من كنوز في باطنها وما في ظاهرها من مواقع أثرية من قيمة تاريخية وثقافية وحضارية لا تقدر بثمن لذلك فإن المطلب المنطقي الوحيد للمثقفين السودانيين يجب ان يكون هو وقف إقامة تلك السدود واعتبار أراضي السكوت والمحس جزء من التراث الإنساني المطلوب حمايتها كما تفعل منظمة اليونسكو مع بعض المباني والمناطق الأثرية في العالم .
الأهداف المعلنة من إقامة السدود وحقيقتها:
بالطبع لا يجب أن يفهم أحد أن معارضة السدود يعنى معارضة إقامة مشروعات التنمية ولكن ما نود توضيحه هو ان هناك إمكانية كبيرة لتنمية المنطقة النوبية بدون إقامة تلك السدود بتكلفة أقل وعائد أكبر للسودان .
ما هي دواعي إقامة تلك السدود؟
لو تركنا كل ما يحيك في نفوسنا من ريبة فهل هذه السدود فعلاً لتنمية المنطقة النوبية وإعادة أبناء النوبة من دول الشتات لتعمير المنطقة وتنمية ثقافتهم كما ذكر الفريق عبد الرحيم محمد حسين في لقاء الرياض ؟
إن أي إنسان لديه أدنى إلمام بجغرافية منطقة السكوت والمحس لا يمكن ان ينطلي عليه مثل هذا الادعاء !
فالمنطقة كما أوضحنا سابقاً عبارة عن شريط من الأراضي الضيقة حول ضفتي النيل وهي الأراضي التي سوف تغمرها مياه السدود ، ولا يمكن توطين السكان حول البحيرة لأنها أراضي صخرية ورملية غير صالحة للنشاط السكاني وهذه المنطقة علي طول أكثر من 200 كم سوف تكون خالية من السكان إلا منطقة واحدة في أقصى جنوب المحس هي منطقة كُكَه ، وبالطبع لا يمكن ان تسع كل المهجرين وهذا الأمر قد يشكل خطراً للأمن الوطني السوداني لذلك فأين ستقام مشاريع التنمية ولمن؟!
عندما بدأ العمل في طريق السليم حلفا ووافقت الدولة علي مد كهرباء سد مروي حتى وادي حلفا اعتقد النوبيون ان الدولة القومية قد انتبهت الى مظالمهم التاريخية من التهميش الذي أدى الى هجرتهم الى مصر سابقاً والى أطراف المدن السودانية والي دول الشتات في العالم نتيجة افتقار المنطقة الى الخدمات الأساسية المهمة كالصحة والتعليم إلا التي أقاموها بجهدهم الذاتي وكذلك عدم وجود مشروعات زراعية أو صناعية أو طرق معبدة أو كهرباء ، ولكنهم للأسف اكتشفوا ان الطريق والكهرباء لم تكن من اجل تنمية منطقتهم بل كان إيذانا لهجرة أخرى لتيه آخر .
قالت أختي الله يعطيها الصحة والعافية وهي امرأة سبعينية أمية غير جاهلة بجغرافية المنطقة كما الذين يخادعون بتنمية المنطقة بإقامة السدود " أمقا " وهي كلمة نوبية موحية بالحيرة والتساؤل لا أجد لها مرادفاً بالعربية "إذا كانت المنطقة ستغرق فلمن يعملون الطريق والكهرباء " .
إن هذه السدود سوف تبني فقط من اجل إنتاج الطاقة الكهرومائية الرخيصة من اجل إضافتها للشبكة القومية وتصدير الفائض للخارج عندما تكتمل منظومة السدود التي سوف تقام لإنتاج الكهرباء من التوليد المائي حسب ما أعلنه السيد مدير الإدارة العامة للكهرباء .

البدائل المتاحة للتنمية دون إقامة السدود :
قبل مناقشة مسألة هل من المصلحة العامة للدولة السودانية إقامة تلك السدود أم إقامة مشروعات التنمية البديلة ، في ضميري تساؤلات ملحة كثيرة كمواطن سوداني نوبي مسلم وهى :
ما هو المسوغ الأخلاقي الذي يسمح للحاكمين فى مصر والسودان الإعتقاد من أن النوبة وحدهم وهم السكان الأصليين في البلدين يجب ان يضحوا بأكثر من 500كم من أرضهم التاريخية وممتلكاتهم وهويتهم وارثهم الحضاري من اجل رفاهية البلدين لذلك يجب قسرهم للهجرة الى أماكن لم يشاركوا في اختيارها لتكون وطناً لهم ولأولادهم وأحفادهم إلى يوم يبعثون ؟
إن المصلحة العامة للفئة المؤمنة وهي محاصرة في المدينة ومصيرها في خطر بل مصير الدعوة الإسلامية كلها في خطر لم يمنع رسولنا الكريم من التراجع عن قراره منح ثلث ثمار المدينة لقبيلة غطفان لصرفهم عن حصار المدينة عندما مانع الأنصار ذلك !!
ومصلحة الدين الخاتم الى البشرية كلها الى يوم القيامة لم يجعل الرسول صلي الله عليه وسلم يقبل أرض إقامته ومسجده الكريم من أخواله بني النجار إلا أن يدفع المقابل المرضي للصبي اليتيم صاحب الأرض عندما بركت الناقة المباركة فيها وهي مأمورة بأمر الله سبحانة وتعالى درءاً لأي شبهه لظلم الصبي .
هذا هو عدل الإسلام وهذه هي سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي أدعى أن يتبعها الحاكمين في السودان ومصر .
فأي شيطان في ضمائر المسئولين عن إقامة السدود يوسوس لهم لاقتراض المال بالربا لإقامة تلك السدود لإغراق أرض قوم من المسلمين وتهجيرهم قسراً من أجل ماذا ومن أجل من ؟
وبصراحة النوبيين المعروفة أتساءل بربكم أي قبيلة سودانية مستعدة بالتضحية بأرضها بطول أكثر من 500 كم من اجل أي مشروع مهما عظم شأنه لتنمية السودان ؟
وبصراحة أكثر هذه السدود كما أوضحنا لتوليد الطاقة الرخيصة والنوبيون ضحوا من أجل الأمن المائي لمصر العزيزة بطول 150 كم من أرضهم التاريخية قسراً وبأوامر حكام السودان ، ألا يضحي باقي السودانيين في الوطن الغالي من أجل باقي ارض النوبة ( وبغض النظر عن أهميتها التاريخية التي ذكرناها وأهميتها الاقتصادية التي سوف نذكرها ) بتحمل فقط فرق التكلفة بين الإنتاج المائي والحراري للكهرباء ؟!
إن من أوجب واجبات الأشخاص الذين يقومون بعمل الدراسات اللازمة لإقامة مشروعات التنمية توضيح كل سلبيات وايجابيات المشروع للسلطات السياسية التي تقوم باتخاذ القرارات وكذلك توضيح البدائل الأخرى المتاحة لكي يوازي السياسي بين الاعتبارات الاقتصادية البحتة والاعتبارات الأخرى المهمة مثل الاعتبارات السياسية والإنسانية وغير ذلك من الاعتبارات .
فهل تمت دراسة أية بدائل للتنمية عند اتخاذ قرارات إقامة السدود الجديدة في المنطقة النوبية ؟
إن المنطقة النوبية غنية بالموارد الاقتصادية المختلفة كمعظم المناطق الأخرى في السودان ، ومئات من العلماء النوبيون في مختلف التخصصات والذين يتبوأ بعضهم ارفع المناصب في ارقى الجامعات والمنظمات العالمية بما في ذلك وكالة الفضاء الأمريكية" ناسا " يمكنهم وضع الخطط لتنمية المنطقة النوبية بما يعود على الدولة السودانية عائد اقتصادي أكبر من إقامة تلك السدود فقط لو خصص جزء من الأموال المرصودة لتلك السدود .
بل إنني سوف أتجاسر لتوضيح ذلك لإدارة السدود لو كانوا لا يعلمون رغم انني لست من أهل الذكر بل شيخ نوبي من غمار الناس ما اجبره على الكتابة رغم انه لا يملك من أدواتها شيئاَ سوى تطاول الأوجاع النوبية مع السدود مرتكناً فقط إلى قوة منطق الحق .

أولا : الإمكانيات الزراعية :
منذ أقدم العصور استطاع المزارع النوبي المعروف بخبرته الزراعية أن يطوع الظروف القاسية المتمثلة في الأراضي الضيقة على الشريط النيلي لإنتاج ما يكفيه من غذاء مستخدما الساقية والشادوف وأخيراً الطلمبات ولم يحدث أن استوردت المنطقة المنتجات الزراعية إلا نادراً كما برع في زراعة النخيل حتي أن سلطات الحكم الإنجليزي استعانت بمزارعي السكوت والمحس لتعليم المزارعين في المناطق الأخرى في الولاية الشمالية كيفية زراعة أشجار النخيل والعناية بها ، وقد مثل إنتاج التمور الثروة الرئيسية لمنطقة النوبة في كل الأزمان .
1)إنتاج التمور :
من المعروف ان المنطقة من أفضل المناطق في السودان لإنتاج أجود أنواع التمور لخلو المنطقة من إمراض النخيل المعروفة في المناطق الأخرى لذلك فرغم ضيق الأراضي للزراعة الواسعة لإنتاج المحاصيل الحقلية فيمكن زراعة الملايين من أشجار النخيل ليصبح السودان من اكبر مصدري التمور في العالم ، وذلك بإستيراد شتول الأصناف الممتازة من التمور القابلة للتسويق في الخارج ، لاسيما ان العلم الحديث في مجال التقانة الزراعية قد توصل إلى إمكانية إنتاج آلاف الشتول من شتلة واحدة بواسطة زراعة الخلايا وهي تقنية متوفرة في السودان في مركز الأبحاث الزراعية بشمبات وبتوفير الإمكانيات اللازمة يمكن لهذا المركز إنتاج الشتول المطلوبة .
وإنتاج التمور إذا توفرت الطاقة يمكن أن تقوم عليه صناعات كثيرة مثل تعبئة وتغليف التمور وإنتاج السبيرتو والعسل والمربة بل وصناعة أعلاف حيوانية ذات قيمة غذائية عالية من نواة التمور ، بالإضافة إلى زراعة الملايين من أشجار النخيل فإنه يمكن زراعة الأعلاف الحيوانية بإستغلال المساحات بين أشجار النخيل لتربية مختلف أنواع الحيوانات لتصدير اللحوم إلى أسواق مصر القريبة والمتعطشة الى اللحوم ، بل إن تلك الأراضي الضيقة والخصبة بطمي النيل يمكن أن تتخصص في إنتاج محاصيل ذات قيمة تصديرية عالية مثل الأعشاب الطبية والنباتات العطرية وزراعة الزهور وإنتاج عسل النحل وغير ذلك من المنتجات التي لا تحتاج الى أراضي واسعة فضيق الأراضي الزراعية ليست مشكلة لإحداث تنمية في المنطقة إذا توفرت الإرادة السياسية المخلصة والإدارة المحلية الخلاقة ما دام النيل هبة الله العظيم يجري .
كتب الكاتب المصري أنيس منصور أن رئيس الكيان الصهيوني الهالك مناحيم بيجن قال للرئيس المرحوم أنور السادات وهو يتطلع الى النيل في مدينة أسوان بإعجاب لو أن كل مصري يسكن على ضفة النيل في القرى الممتدة من القاهرة الى أسوان زرع شجرة مانجو واحدة علي ضفة النيل لأصبحت مصر أكبر دولة مصدرة للمانجو في العالم !!
2) دلتا النوبة :
عند إكتمال تخزين المياه خلف السد العالي قلت سرعة جريان مياه النيل مما جعل إطماء النيل تترسب في المنطقة جنوب حلفا علي امتداد حوالي 150 كم مكونة دلتا تقدر مساحتها بمئات الآلاف من الأفدنة مما مثل أعظم تعويض إلهي للنوبة عن الآثار التي نتجت من السد العالي ومثلت اكبر نكبة للأراضي الزراعية في مصر .
ورغم ان هذه الدلتا تغمر بعضها المياه في موسم فيضان النيل عندما يتم قفل بوابات السد العالي إلا ان هذه المنطقة أصبحت من المحميات البيئية الغنية بالأشجار والأسماك ذات الأحجام الكبيرة والطيور المختلفة مثل الاوز والبط والحيوانات مثل الغزلان والأرانب ويقوم بالزراعة في هذه الدلتا في الوقت الحالي بعض المواطنين بمبادرات فردية وإمكانيات ضعيفة لإنتاج القمح والفول المصري ولكن هذه المنطقة إذا سخرت لها الإمكانيات المالية والحزم التقنية مثل الميكنة الزراعية الكاملة والبذور المحسنة والإرشاد الزراعي واستخدمت تقنيات حديثة للري مثل الرشاشات المحورية يمكن أن تكون سلة غذاء السودان فهذه الدلتا بتربتها الرسوبية التي تتجدد معظمها كل عام ذات خصوبة عالية يمكن ان تحقق إنتاجية مذهلة من القمح والفول المصري والبقوليات بل يمكن زراعة مجموعة واسعة من الفواكه والخضروات بدون استخدام الأسمدة الكيماوية وتصديرها الى الدول الأوربية المتعطشة للأغذية العضوية ، لاسيما وان الخضروات الشتوية في السودان لها ميزة نسبية حيث أن الخضروات لاتزر ع في الشتاء في الدول الأوربية وشمال افريقيا إلا داخل البيوت المحمية .

3) الحوض النوبي :
المعلومات المتداولة عن أراضي الحوض النوبي عبارة عن سهول تمتد من ارقين حتى منطقة دنقلا في عمق الصحراء النوبية على مسافات تتراوح بين 30 -60 كم غرب النيل ومساحتها حوالي 14 مليون فدان كما أعلن ذلك الدكتور محمد خير وزير المالية للولاية الشمالية حسبما نشر في جريدة السوداني في ابريل 2008م وقد ذكر السيد الوزير ان هذه المساحة تقع فوق البحيرة النوبية الجوفية والتي تتوفر فيها 16 تر ليون متر مكعب من المياه الصالحة للري .
الاطماع الإقليمية في أراضي ومياه الحوض النوبي :
من المعروف ان الخزان الجوفي يتوزع بين دول أربعة هي مصر والسودان وليبيا وتشاد وان الجزء الأكبر من هذا الحوض في الأراضي السودانية ، وقد بدأت الدراسات لاستغلال مياه هذا الحوض باتفاقية وقعت بين مصر وليبيا عام 91 م ولم تنضم الدولة السودانية إلا عام 97 م !!
وانضمت تشاد أخيراً للدول الثلاثة .
وكما جاء في صحيفة الأيام بتاريخ 26/12/2007م فقد وجد هذا المشروع اهتمام الصندوق العالمي للبيئة والوكالة الدولية للطاقة الذرية اللتين وفرتا معاً 3 ملايين دولار لتمويل الدراسات ووضع الإطار القانوني لقيام مؤسسة مشتركة لاستغلال مياه الحوض .
ومن المعروف أن ليبيا ومنذ وقت طويل تستخدم كميات كبيرة من هذه المياه فيما يعرف بالنهر الصناعي العظيم ، فإذا لم تكن هنالك فواصل بين نطاقات هذه المياه في الدول الأربعة فكيف يمكن ان تحل مشكلة هذه الكميات التي تستخدمها ليبيا .
لقد قيل ان الزعيم الليبي معمر القذافي زار منطقة ارقين قبل عدة سنوات ومنطقة ارقين لمن لا يعرفها منطقة خالية من السكان غرب وادي حلفا وقد قيل ان الزعيم القذافي قد خيم لعدة أيام ولم يقابله أي مسئول حكومي حتى مغادرته ولم يعلن أي شئ عن لماذا أتى ولماذا رجع !!
فإذا ربطنا ذلك بالمساعدات التي قيلت ان ليبيا كانت تقدمها للحركة الشعبية لتحرير السودان وما يقال عن مساعدات مازالت تقدمها لحركات دارفور المسلحة ، فهل هذه هي إرهاصات حرب المياة القادمة ؟!
ويتداول علي نطاق واسع في أوساط النخب النوبية انه تم منح المصريين بعض المساحات من الحوض النوبي قيل انها تبلغ 1.6 مليون فدان ، وتوجد مؤشرات كثيرة تؤكد هذا الظن منها ما هو معروف من دعوة وزير دولة سابق في وزارة الزراعة للفلاحين المصريين للزراعة في سهل ارقين في ندوة أقيمت في مركز الدراسات الاستراتيجية في صحيفة الأهرام المصرية ، وقد قيل ان وفداً فنياً زار المنطقة .
كما تم رصد مؤشرات كثيرة عبر الانترنت وأجهزة الإعلام المصرية مثل حوار وزير الري المصري الذي أعلن فيه عن حل مشكلة الاطماء للأراضي الزراعية في مصر بإقامة سد في الأراضي السودانية وشق ترعة تصب المياه المحملة بالطمي بعد السد العالي ، ويتردد على نطاق واسع في أجهزة الإعلام المصرية عن فرص لتملك أراضي زراعية في السودان .
وبالطبع ان كل سوداني يرحب بالاستثمارات الأجنبية وخاصة العربية وبالأخص الإخوة من مصر وليبيا إذا كان الاستثمار سوف يحقق مصلحة الطرفين دون شبهة لاستغلال أية أوضاع سياسية أو اقتصادية في السودان .
ان الأوضاع الاقتصادية السيئة في السودان وتلهفنا للاستثمار الأجنبي لا يجب أن يعمي أبصارنا وبصيرتنا عن مصالحنا الحيوية ومصالح الأجيال القادمة ويجب أن نعلم أننا نملك ثروة قيمة لا تقل اهميتة عن رأس المال وهي هذه الأراضي وتلك المياه في جوف الأرض فنرحب بالمستثمرين من اجل المصلحة المشتركة ولكن لا يجب ان نفرط في ملكية هذه الأراضي بأي صورة من صور الملكية فأجهزة الإعلام المصرية تتحدث عن ملكية منفعة لمدة 99 عام .
وقبل طرح تلك الأراضي للاستثمار يجب التأكد من تجدد المياه الجوفية والكميات المتوفرة وحل مشكلة توزيع تلك المياه بين الدول الأربعة حتى لا نستهلك تلك المياه الثمينة إذا كانت غير متجددة فتعود ما على هذه الأرض صعيداً جرزاً كما الآن .
والنوبيون بالطبع يتطلعون إلى منحهم بعض التمييز الحميد عند توزيع تلك الأراضي خاصة أهالي حلفا الذين رفضوا الهجرة الى خشم القربة وصمدوا في صحراء النوبة يطاردهم الفيضان من مكان لآخر وعانوا الأمرين عندما اعتبرتهم الطغمة العسكرية النوفمبرية متمردين وقطعت عنهم كل الخدمات حتى خط السكة حديد حتى قيام ثورة أكتوبر المجيدة ، وما زالوا يفتقرون الى مشاريع زراعية أو صناعية للتنمية ولم تقدم لهم الحكومات المتعاقبة شيئاً يعتمدون عليه في معيشتهم وكانوا يستحقون بر حكومتي السودان ومصر لأيديهم التي سلفت بتضحيتهم بأرضهم وممتلكاتهم من اجل الأمن المائي لمصر ولأنهم بصمودهم الأسطوري في تلك الفيافي حافظوا علي صلة الوصل بين مصر والسودان .
وكذلك الحلفاويون الذين هجروا قسراً الى خشم القربة والذين باعوا ممتلكاتهم في حلفا الجديدة بسبب الأمراض والمسكيت وتدهور الري في مشروع حلفا الجديدة ليسكنوا في أطراف المدن .
وأيضا باقي النوبة من السكوت والمحس والدناقلة بحكم خبرتهم في الزراعة وبحكم الحق التاريخي والجغرافي وتعويضاً لهم علي صبرهم الجميل دون تذمر طوال الحقب السابقة علي كل ألوان التجاهل والتهميش .
كذلك يجب منح الأولوية لرأس المال الوطني السوداني حيث ان الاستثمار في زراعة القمح في هذه الأرض البكر سوف يكون مجزياً خاصة إذا وفرت الدولة البنيات الأساسية المتمثلة في الطرق والكهرباء والتمويل الكافي لاستخدام الوسائل الحديثة للزراعة مثل الآلات الزراعية والرشاشات المحورية لزراعة مساحات واسعة .
إن هذه المنطقة من أفضل مناطق زراعة القمح في السودان وإذا استخدمت الحزم التقنية يمكن أن يحقق الفدان إنتاجية أكثر من 2 طن مما سوف يجعل السودان فعلاً سلة غذاء العالم العربي والافريقي من سلعة القمح والتي أصبحت سلعة ثمينة بعد أزمة الغذاء العالمية .
كما ان هذه المنطقة الواعدة يمكن أن تنتج محاصيل أخرى مثل النخيل والمانجو والحمضيات مثل القريب فروت الخالي من البذور لتصديرها إلى أوربا مما سوف يسهم في عمل نهضة شاملة في الولاية الشمالية ويعود بالخير العميم على السودان .

ثانياً : الإمكانيات التعدينية والنفطية :
من المعروف ان المنطقة النوبية غنية بالمعادن المختلفة مثل الذهب منذ أقدم العصور حتى قيل ان كلمة نوبة مشتقة من كلمة "نب" أي الذهب باللغة النوبية ، وكان الذهب يتم التنقيب عنه حتى وقت قريب في منطقة الدواشات ومنطقة أبصاره ، كما توجد أحجار الرخام غرب قرية عكاشة وكما أعلن السيد وزير المالية للولاية الشمالية( في مؤتمره الصحفي المنوه عنه من قبل) وجود معادن مثل النحاس والحديد بكميات تجارية ، وهناك إمكانية لاكتشاف معادن أخرى حيث انه لم يتم حتى الآن عمل مسوحات كاملة للمنطقة وتوجد كميات تجارية من الحجر الجيري على طول المنطقة وبذلك يمكن إقامة عشرات المصانع لإنتاج الأسمنت .
كما توجد مؤشرات مبشرة لإنتاج النفط في مربع 14 بالقرب من واحة سليمة ، ورغم اننا لا نعلم يقيناً المراحل التي وصلت إليها الاكتشافات فإن الأهالي يتحدثون عن أعمال دائبة جارية في مجال البترول ندعوا الله ان تكلل بالنجاح .

ثالثاً إمكانيات الثورة السمكية في بحيرة النوبة :
تمتد بحيرة النوبة في الأراضي السودانية علي طول 200كم وهي بحيرة غنية بالأحياء المائية والتي لم يتم استغلالها حتى الآن إلا بصورة ضئيلة منذ إنشاء السد العالي مما جعلت البحيرة غنية بالأسماك ذات الأحجام الضخمة لذلك فإن الاستثمار في مجال صيد وصناعة الأسماك سوف يكون مجزياً في المجالات التالية :
1) صيد الأسماك بواسطة الزوارق وسفن الصيد الحديثة .
2) إقامة صناعة تعبئة الأسماك الطازجة للتصدير .
3) قيام صناعات أخرى مرتبطة بمخلفات الأسماك مثل الأسمدة العضوية ومركزات الأعلاف الحيوانية والتي يتم استيرادها الآن من الخارج .

رابعا:ً الإمكانيات السياحية :
المنطقة النوبية لديها إمكانيات هائلة للجذب السياحي ولعل أهم مقومات الجذب السياحي في رأيي المتواضع يتمثل في الأرض والإنسان النوبي نفسه.
فاستمرار حركة الحياة وامتدادها في شريط من الأرض قرب النيل منذ آلاف السنين ووجود إنسان يطوع الطبيعة القاسية بفكرة الخلاف باختراع الشادوف والساقية والمحراث اليدوي ويحافظ على هويته وتراثه الثقافي ولغته التي تعتبر من أقدم اللغات وعلى تقاليده وعاداته وأعرافه ونقائه الروحي نتيجة اعتناقه للأديان التوحيدية الثلاثة طوعاً دون إكراه ، ان هذا كله يمثل ملحمة من ملاحم الإنسان في الأرض يمكن ان يلهب خيالات الأوربيين وكذلك الزنوج الأمريكيين ( الذين يفتخرون بالحضارة النوبية كرمز لتحضر الزنوج الأفارقة ) لزيارة هذه المنطقة لو أحسنا تسويقها بإقامة متاحف صغيرة بسيطة تجسد هذه الحقيقة بتكاليف قليلة جداً مثلاً بيوت من الطين على الطراز النوبي القديم المشهور ببواباتها المزركشة الجميلة مثل منزل بنفس أدوات وأثاثات المنازل القديمة ة
وآخر بالأدوات الزراعية القديمة مثل الساقية والشادوف والمحراث والطورية والاربل والكرك وساعات الظل ...ألخ .
ومنزل آخر كمتحف للأدوات الحجرية وآخر للهياكل العظمية بل لأنواع الصخور إلى غير ذلك من المتاحف المبتكرة التي تجسد حياة الإنسان النوبي وربط ذلك كله بالمناطق الأثرية على طول السودان لإظهار التطور الحضاري لإنسان السودان وبتكامل مدروس مع باقي عناصر الجذب السياحي المتمثلة فيما يلي :-
1) المواقع الأثرية المتعددة ( بالطبع كلها مهددة بالغرق ).
2) بحيرة النوبة والبيئة الطبيعية التي توفر عناصر متكاملة من الجذب السياحي مثل رياضات صيد السمك والطيور في دلتا النوبة والمساحات المائية الواسعة لمزاولة الرياضات المائية مثل التجديف والتزلج المائي إلى غير ذلك من الرياضات المائية الكثيرة .
3) المناظر الطبيعية الخلابة للقرى النوبية بين الجبال ببيوتها الطينية بألوانها البيضاء والصفراء بين أشجار النخيل في حضن النيل ، لقد سمعت احد الأوربيين يصبح مندهشاً من فيلم وثائقي عندما رأى تلك القرى " يا إلهي هذا أجمل منظر رأته عيناي "
4) الشمس الساطعة والهواء الجاف النقي من كل الملوثات الحضارية من أهم مقومات السياحة الشتوية ، بل ان السماء الصافية الخالية من الغيوم والمرصعة بالنجوم في ليالي النوبة الهادئة يخلب لب الأوربيين كما رايتهم بنفسي .
5) حمامات عكاشة ذات المياه المعدنية الكبريتية الساخنة والتي تعالج أمراض المفاصل والأمراض الجلدية يمكن ان تكون مصدر للسياحة العلاجية كما في دول مثل تونس والتشيك لاسيما انها تقع في نطاق محمية دلتا النوبة وقريباً من شلال دال مما يشكل مجموعة كاملة من الجذب السياحي .
6) واحة سليمة في الصحراء النوبية حيث يمكن تنظيم رحلات بالجمال من النيل لتلك الواحة الجميلة في قلب الصحراء والتي يمكن أن تثير خيالات كثير من المغامرين الأوربيين مع ممارسة رياضات مثل التزلج على التلال الرملية وتسلق الجبال ...ألخ .
7) المنطقة النوبية منطقة وسطي يمكن أن تخلق تكامل سياحي بين مصر والسودان بواسطة الأفواج السياحية المشتركة فهي قريبة من أهم المناطق الأثرية السياحية في أبو سمبل (جنوب أسوان أقرب إلى حلفا من أسوان ) والتي يمكن الوصول منها واليها بالبواخر النيلية وقريبة ايضاً من أهم المناطق الأثرية في السودان كرمة البركل الكرو ...ألخ
والتي يمكن الوصول إليها بسهولة بواسطة البصات السياحية بالطريق البري المعبد حلفا السليم كريمة .
8 ) وفوق ذلك كله الإنسان النوبي الطيب الأمين المسالم الذي يمكن أن يتعامل مع السواح الأجانب بأسلوب متحضر .
9) ان القرى النوبية الهادئة المنعزلة بين الجبال علي شاطئ النيل العظيم إذا توفرت فيها الخدمات مثل الكهرباء والمياه النقية والمنتجعات المريحة يمكن أن تكون ملاذاً لكثير من الكتاب والمفكرين والفنانين الذين يبحثون عن الأماكن الهادئة للتفرغ للإبداع هرباً من حياة أوربا الصاخبة الباردة .
سمعت مرة المرحوم الأستاذ فضل عثمان رحمه الله يقول ان الكاتب الإنجليزي المشهور سومرت موم كان يأتي لعدة سنوات في فصل الشتاء للإقامة في فندق النيل في وادي حلفا لممارسة الكتابة في جو هادئ وانه دعي مرة كاتبة القصص البوليسية المشهورة اجاثا كرستي ليريها المكان المذهل الذي اكتشفه وانه تصرف تصرفاً معيناُ ( لا اذكر تفاصيله ) ليؤكد لها مدى السلوك المتحضر الذي يتصف به عمال الفندق من النوبيين .
خامساً الطاقة الشمسية بديلاً عن السدود :
الولاية الشمالية والمنطقة النوبية التي تقع في أقصي شمال الولاية الشمالية من أكثر المناطق ارتفاعاً في درجة الحرارة طيلة العام لوقوعها قرب مدار السرطان مع سطوع الشمس طوال العام حتى في أيام الشتاء فإذا كانت دولة مثل مصر لديها وفرة من الكهرباء المولدة من السد العالي وتقوم بتصديرها قد أقامت محطة توليد كهرباء من الطاقة الشمسية لتوليد 500 ميجا واط ودولة أخرى مثل ألمانيا تقع في نطاق المناطق الباردة تنتج 1000 ميجا واط من الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية فلماذا لا تفكر دولة مثل السودان بالمميزات التي ذكرناها لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية وتكفي النوبيون القتال ضد هذه السدود .
وتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية تمتاز عن الكهرباء المولدة من السدود بما يلي :-
1) قلة تكلفة الإنشاء وتكلفة التشغيل .
2) قلة المدة اللازمة لتوفيرها .
3) لا يصاحبها تهجير آلاف السكان من أرضهم ولا إلى فقدانهم لممتلكاتهم .
4) لا تترتب عليها آثار سالبة على البيئة الطبيعية والنباتية والحيوانية .
5) توفير المبالغ الطائلة التي تدفع للمهجرين كتعويضات لممتلكاتهم الثابتة وتهيئة المكان الجديد لإسكانهم .
6) بذلك نحافظ على كنوزنا الأثرية التي لا تقدر بثمن .
7) إمكانية توريد محطات ذات طاقات مختلفة حسب احتياجات كل منطقة وبذلك يمكن توفير تكاليف نقل الكهرباء .

خاتمة :
هذه وجهة نظر شيخ نوبي من عوام الناس فأين وجهة نظر الدولة ؟
لقد تحدث السيد عادل عوض والى الولاية الشمالية حديثاً طيباً في ندوة الرياض قال ان الحكومة لن تجبر المواطنين بالهجرة وانه سوف يتم استفتاء سكان المنطقة لمعرفة رأيهم ورغبتهم ولكن قبل أن يذهب صدى صوته بالحديث المذكور حتى كان رئيس شرطة محلية وادي حلفا قد أصدر أمرا صارماً بمنع اجتماعات المواطنين إلا الاجتماعات الرسمية !!
وهو ما يتناقض مع روح حديث السيد الوالي ، فكيف يستقيم عقلاً ان لا يجتمع الناس لمناقشة مصيرهم وكيف يتوصل المعارضون والمؤيدون إلى رأي مشترك ، إن اخذ الإذن للاجتماع يعني إن السلطات تريد أن تحضر الاجتماعات لمعرفة من المعارض ومن المؤيد رغم أن عمل استفتاء يعني انك تحترم رأي المعارض والمؤيد على حد سواء وابسط قواعد العدالة توجب ترك الناس لإبداء آرائهم بحرية وحضور سلطات الشرطة والأمن مما يناقض ذلك .
إن مثل هذه القرارات الفطيرة الغير مدروسة تدل إما ان التنسيق مفقود بين السلطات المحلية بين الولاية والمعتمدية وتلك مصيبة أم ان حديث السيد الوالي مجرد تعميه لتجميل قرار التهجير القسري وكأنه تم برغبة المواطنين ذراً للرماد في عيون الرأي العام السوداني والمجتمع الدولي وهو نفس ما حدث لإخواننا الحلفاويين حيث استفتوا على خيارات متعددة لاختيار الوطن البديل وكان ذلك ذراً للرماد في أعينهم لتهدئة نفوسهم ثم كان قرار طغمة نوفمبر قسرهم على الهجرة إلى خشم القربة آخر اختياراتهم في نتيجة الاستفتاء .
لذلك فان الأحاديث التي تقولها رموز الدولة عن تنمية المنطقة وانه سوف يتم اخذ رأي المواطنين واستفتائهم لن تنطلي على الأهالي لان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وعلى الدولة أن تفصح عن كل أوراقها لأن الاستناد إلى ان الدراسات لم تكتمل حجة واهية لان الدولة إذا كانت تكترث لرأي المواطنين لأعدت الدراسات التي تهم المواطنين مثل الوطن البديل والتعويضات قبل الدراسات الفنية .
لأنه ليس من المنطق أن تقتحم قرية وادعه بالآلات والمعدات وعربات شرطة الاحتياطي المركزي المدججة بالسلاح وخواجات وناس أغراب دون أن تواجه بتساؤل بسيط ما الأمر ؟!
وعند بدء التساؤلات يجب أن تكون الإجابات جاهزة ليس من نوع أنها لعمل الدراسات الفنية لان مثل هذه الإجابة سوف تتبعها أسئلة أخرى ثم ماذا بعد ؟
فان لم تكن هنالك إجابة شافية فإنها سوف تثير الشكوك والريبة ثم تتحول التساؤلات الهامسة إلى إشاعات وتقوم الإشاعات ببلبلة العقول بدءً بعقول المسئولين أنفسهم وعقول المواطنين وتنشأ عدم الثقة بين الطرفين وتبدأ الاحتجاجات والمظاهرات السلمية التي تواجه باستعمال القوة المفرطة لحد القتل وتبدأ السلطات المحلية الفاشلة في كيل الاتهامات لتبرير فشلها في إدارة الأزمة فينعت هؤلاء بانهم مدفوعون من المعارضة واؤلئك من الشيوعيين وتبدأ في حشد المؤيدين من المنتفعين الذين يجيدون الهتاف العالي فتصدق السلطات السياسية العليا ذلك وتتغاضى عن مساءلة المسئولين الذين تسببوا بنزقهم وتسرعهم إلى استفحال الأزمة فتصبح الأزمة مشكلة حقوق إنسان تتطلب زيارة السيدة سيما سمر وتصبح أزمة دولية تستحق أن تخصص لها منظمة الأزمات الدولية فقرة في تقريرها ويعلم الله مدى تداعياتها فتصبح جهة الشمال الجهة الوحيدة المسالمة في جهات الله الأربعة في السودان معادية للدولة الوطنية ؟؟
هذا هو السيناريو الذي حدث في قرية كجبار وهو نفس السيناريو الذي تجري فصولة الآن في قرية دال والذي سوف يؤدي إلى نفس النتيجة !!
لذلك على الدولة أن تعترف أن بعض مسئوليها قد ارتكبوا اخطاءً وتبدأ بمحاكمة المسئولين عن قتل الشبان في كجبار فمن المؤكد أن خطاً جسيماً حدث في كجبار فمن ما قيل بعد مشاهدة صور الفيديو التي بثت عبر الانترنت فإن الجنود الذين أطلقوا النار كانوا على رؤوس الجبال وكانوا يتخذون سواتر في وضع استعداد لإطلاق النار مما يشكك في الرواية الرسمية التي تقول انهم أطلقوا النار دفاعاَ عن النفس عندما فوجئوا بهجوم الأهالي ، وفي كل الأحوال فإن مظاهرة سلمية لم يكن أبداً من الواجب مقابلتها بذلك الاستعمال المفرط للقوة لدرجة إطلاق النار ، لذلك يجب أن يتحمل الشخص الذي امر بإطلاق النار المسئولية حتى تهدأ نفوس النوبيين .
كما يجب على الدولة أن تعترف أيضاً أن امر تنفيذ السدود تدار بطريقة غير رشيدة لا تليق بدولة حديثة ، فهذه الأزمة بتداعياتها التي حدثت والتي سوف تحدث لم تكن لتستفحل لولا الأخطاء الإدارية والسياسية التي ارتكبت وما زالت ترتكب .
فلو تمت الدراسات التي تهم المواطنين وأعلنت قبل بدء الدراسات الفنية أو حتى لو أبدت السلطات بعض الاكتراث والاحترام الواجب للمواطنين لما حدث ما حدث في كجبار .
والأشياء التي تهمهم هي التعويضات المجزية عن الممتلكات وتحديد الوطن البديل باختيارهم وإقناعهم بجدوى السد للوطن ولهم حتى يأتي قبولهم بالتهجير طوعاً كما تطالب موجهات اللجنة الدولية للسدود لا قسراً كما تطالب رصاصات كجبار !!
عندما سمعت حكاية أحداث كجبار قفزت إلى ذهني حكاية كنت قد قرأتها في جريدة أو مجلة ما ولا أتذكر متي ولكن القصة لمغزاها العميق علقت في ذهني والحكاية حقيقية وهي
أن رجلاً مسلماً من جزيرة هونج كونج ذهب إلى الأراضي المقدسة للحج ، وعند رجوعه احضر معه شتلتا نخيل زرعهما أمام منزله حتى صارتا نخلتين ، قررت بلدية المدينة شق طريق تمر أمام منزل الرجل لذلك طلبت الإذن من الرجل لقطع النخلتين وعندما رفض الرجل رفضاً باتاً عدلت البلدية مسار الطريق احتراماً لمشاعر الرجل الروحية تجاه النخلتين .
ولكن بعد عشر سنوات لم تجد البلدية بداً إلا أن يمر الشارع أمام منزل الرجل نتيجة للتوسع الذي حدث في المدينة ولضيق الأراضي في الجزيرة الصغيرة فطلبت الإذن من زوجة الرجل الذي كان قد توفى إلى رحمة مولاه فرفضت المرأة رفضاً قاطعاً لاسيما وان النخلتين أصبحتا جزءاً من ذكرياتها مع زوجها العزيز .
لذلك اتصلت البلدية بالسفارة السعودية تطلب التوسط والتي قامت بدورها بالاتصال بوزارة الخارجية السعودية حيث أرسلت خبيراً زراعياُ في زراعة النخيل لإقناع المرأة بإمكانية نقل النخلتين بدون ضرر خلف المنزل ، وقام بزراعة نخلتين إضافيتين مكافأة لها لموافقتها نقل النخلتين !!
ومغزى الحكاية لا تحتاج إلى تعليق سوى أن أوضح ان سكان هونج كونج يدينون بالبوذية!!
فتأمل يا هذا
ألا ينطبق في شأن أولئك وشأن السفاح الذي امر بطلاق النار في كجبار قول الإمام محمد عبده (( لقد وجدت في الغرب إسلام بدون مسلمين ووجدت في بلاد الإسلام مسلمين بدون إسلام )) .
وعلى الدولة ايضاً أن تعترف ان القرارات الخاصة بإنشاء السدود نفسها ربما تكون غير مبرأة من شبهة التسرع فالقرارات الحكومية احياناً تتحذ باستعجال بشهادة السيد كمال عبد اللطيف وزير الدولة بوزارة مجلس الوزراء كما ورد بصحيفة الرأي العام بتاريخ 29/6/2008م .
فإقامة السدود عامة والسدود التي تقوم من اجل التوليد الكهربائي فقط خاصة وكل أنواع السدود التي تقام في الأنهار الاطمائية يفترض أن تخضع لدراسات متأنية بواسطة المتخصصين في مختلف العلوم ، لان إقامة السدود وخاصة في الأنهار الاطمائية لها آثار وخيمة على البيئة الطبيعية والنباتية والحيوانية وبالطبع على السكان يصعب التنبؤ بها في المدى الطويل بل تصعب الإحاطة بها في المدى القصير عند إعداد الدراسات ، فقد خلصت كثير من الدراسات التي تمت على السدود القائمة أن هذه السدود وخاصة القائمة علي الأنهار الاطمائية قد أفرزت تأثيرات لم تكن متوقعة أبداً عند عمل الدراسات وان التأثيرات التي كانت متوقعة حدثت بوتيرة أسرع جداً مما كان متوقعاً .

فمثلاُ السد العالي في مصر والذي بني في ملحمة تاريخية مثل أعظم إنجاز هندسي لمصر في القرن العشرين يوازي في معجزته الاهرامات هاهي مصر تعاني الأمرين من سدها الغالي ، فنتيجة لترسب كل طمي النيل خلف السد فقدت كل الأراضي الزراعية في مصر والتي بني السد من اجل ريها مصدر خصوبتها مما مثل اكبر كارثة تحل بالزراعة في مصر جعل الدكتور سيد مرعي عراب الزراعة في مصر يقول في كتاب أصدره في عام 77 (ان الأراضي الزراعية في مصر سوف تفقد كل خصوبتها عام 2010 وانه لن تبقى أراضي جديدة لاستصلاحها لذلك فلا حل لمصر إلا الاتجاه جنوباً ولو عن طريق القوة ) .
وقد أدى فقد الأراضي المصرية لخصوبتها إلى الإفراط في استخدام الأسمدة الكيماوية للمحافظة على الإنتاجية دون جدوى مما أفقدت مصر أسواق منتجاتها الزراعية في أوربا التي اتجهت لاستخدام الأغذية العضوية .
والكارثة الثانية التي حدثت في مصر نتيجة بناء السد العالي نسبة التبخر الكبيرة للمياه المخزنة في بحيرتي ناصر والنوبة والتي تبلغ 10 مليار م3 من المياه سنوياً نتيجة تخزين المياه في مساحات واسعة في منطقة تقع على مدار السرطان مما يمثل فاقد مائي اثر على الأمن المائي لمصر حيث بلغ نصيب الفرد في العام اقل من 1000 م3 وهو ما يعتبر اقل من المعدل العالمي للأمن المائي ، وسوف تتفاقم المشكلة في المستقبل نتيجة ارتفاع معدل زيادة السكان ( يتم تقدير الأمن المائي حسب المعايير الدولية بقسمة كمية المياه المتاحة سنوياً على عدد السكان فإذا كانت النتيجة أكثر من 1000 م3 فإن ذلك يعني ان الدولة تنعم بالأمن المائي).
فهل تم دراسة كميات المياه المتوقع تبخرها من الخزانات الثلاثة مروي وكجبار ودال عن إعداد الدراسات ؟
ورد في ورقة قدمها البروفسير سيف الدين حمد عبد الله في ورشة عمل بمركز دراسات الشرق الأوسط انه إذا تم تخزين 6 مليار م3 من المياه خلف خزان دال فإن كمية المياه المتوقعة تبخرها قد يزيد عن 700 مليون م3 ، فإذا تم إضافة الفاقد من خزاني كجبار ومروي فقد يصل الفاقد ما يعادل نصف نصيب السودان من فائض حصته من مياه النيل فإذا وضعنا في الاعتبار كميات المياه التي سوف يستخدمها السودان بعد تعلية خزان الرصيرص فكم سيبقي من فائض من المياه لإقامة مشروعات زراعية جديدة للري الدائم ؟!
والعالم مقبل على أزمات في الغذاء والمياه مما سوف تجعل المياه سلعة ثمينة ربما أغلى من النفط .
اما في السودان فإن خزان خشم القربة فقد 60% من قدرته التخزينية مما أدى إلى تدهور مريع في مشروع حلفا الجديدة أدى إلى قيام كثير من النوبيين ببيع ممتلكاتهم والهجرة مرة أخرى للسكن في أطراف المدن .
كما انه من المعروف ان إقامة السدود على النيل الأزرق اثر على الأحواض الفيضية المعروفة في ولايتي نهر النيل والشمالية علي بعد مئات الأميال .
أما تأثير قيام السد العالي على شمال السودان فإنه يحتاج إلى دراسات متعمقة يقوم بها العلماء المتخصصين في مختلف العلوم والتي كان يجب أن تتم قبل التفكير في أقامة سدود جديدة للاستفادة من عبرتها ولكن ما أكثر العبر وما اقل الاعتبار كما قال الإمام علي كرم الله وجهه .

ومثال على ذلك
منطقة السكوت والمحس هي اقرب منطقة للمناطق التي تعرضت للغرق لذلك فإن الآثار على البيئة الطبيعية والحيوانية والنباتية وأراضي الجروف وانعكاساتها السلبية والايجابية على السكان في تلك المنطقة تحتاج إلى دراسات متخصصة ، فمثلاً نتيجة تراكم كميات كبيرة من الطمي تغيرت طبوغرافية الأرض حول النيل في المنطقة فأصبحت أراضي الجروف مرتفعة لا تغمرها المياه إلا في السنوات التي يكون فيها فيضان النيل كبيراً لذلك فقدت أشجار النخيل مصدر الري الطبيعي المجاني في موسم الفيضان ، مما أدى إلى تدني إنتاجها .
كذلك فقدت كثير من القرى الزراعة الفيضية على أراضي الجروف والتي كانت تعتمد عليها في إنتاج كثير من المحصولات مثل القمح والفول والترمس والفاصوليا والخضروات والأعلاف الحيوانية وغيرها من المحاصيل والتي كانت تزرع بدون تكاليف .
وقد أدى ارتفاع تكلفة الإنتاج الزراعي بالري الصناعي بواسطة الطلمبات إلى ترك المزارعين زراعة بعض تلك المحاصيل وتقليل زراعة بعضها مثل الخضروات وتقليل تربية الحيوانات وبذلك قلت دخولهم مما أدى إلى نتائج مأساوية خطيرة على حياة الناس بزيادة نسبة الفقر وتدهور الصحة العامة .
وقد أدى كل ذلك بالإضافة إلى تدهور خدمات التعليم والصحة وافتقار المنطقة كلها لمشاريع التنمية إلى زيادة هجرة كثير من السكان حتى كادت بعض القرى أن تخلوا من السكان .
وهو الأمر الذي جعل بعض المسئولين يعيرون النوبيين بأنهم هجروا بلادهم لتبرير قيام تلك السدود .
وذاك تالله هو "معاقبة الضحية بجرم الجاني" !!
ولتأكيد ان السدود لها تأثيرات بيئية لا يمكن أن تخطر على قلب بشر أورد بعض الأمثلة الأخرى ليس لأهميتها ولكن لغرابتها .
عندما هجر الحلفاويون تركوا كلابهم الأليفة في القرى المهجورة والتي ظلت تأكل من خشاش الأرض حتى غرقت تلك القرى ولما لم تجد من يطعمها أو ما يطعمها توحشت هذه الكلاب وأصبحت تهاجم القرى الآمنة في السكوت والمحس وتفترس الحيوانات الأليفة حتى ظن الأهالي انها ربما تناسلت مع الذئاب !! وفقدت تلك القرى مئات الرؤوس من الغنام والضان وصغار الحمير .
وكذلك فإن خلو منطقة حلفا حتى قرية دال من السكان على طول حوالي 150 كم جعلت تلك المنطقة مرتعاً للذئاب والضباع مما شكل ايضاً خطراً على السكان والحيوانات حيث افترست تلك الضباع احد السواح الأوربيين عندما وقف المسكين لالتقاط صور لها .
والمثال الثالث ان منطقة النوبة كانت غنية جداً بأنواع كثيرة من الأسماك السهلة الاصطياد حتى بواسطة الأطفال والتي كانت تمثل مصدراً مجانياً هاماً للبروتين الحيواني ولكن بعد قيام السد العالي اختفت تلك الأسماك حتى ان سكان المنطقة البارعين في صنع الملوحة "التركين" أصبحوا يجلبونها من جبل أولياء لاختفاء الأسماك الصغيرة من المنطقة نهائياً !!
أوردت الأمثلة السابقة للاستدلال على صعوبة التنبؤ بالآثار البيئية للسدود وكل ذلك لأوضح ان اقامة السدود امر لو يعلم القائمين عليه لعظيم .
لذلك فقد أصبح الرأي العام العالمي المناهض للسدود في تنامي متسارع حتى انه تم تكوين جمعيات للمجتمع المدني للضغط على غرار جمعيات الخضر للمطالبة بمنع إقامة سدود جديدة بل وهدم السدود القائمة .
وكذلك فقد عقدت مؤتمرات عالمية وكونت لجنة دولية للسدود أصدرت موجهات وأجرت دراسات وأبحاث عن أحوال المتأثرين بالسدود في العالم حيث أثبتت تلك الدراسات ان الظروف المعيشية للمهجريين من اجل إقامة السدود لم تتحسن أحوال معيشتهم عن ذي قبل إلا في حالات قليلة جداً .
لذلك فإن التهجير القسري من اجل إقامة السدود أصبح ينظر إليه بأنه من اكبر الجرائم التي ترتكب ضد حقوق الإنسان يستحق مرتكبوها محاكمتهم في محاكم دولية لان من أهم مرتكزات القانون الدولي ان الظلم في أي مكان يهدد العدل في كل مكان .
ومن اجل ذلك وضعت اللجنة الدولية للسدود موجهات يجب الالتزام بها عند بناء سدود جديدة في كل الدول :-


1) ضرورة موافقة السكان المتأثرين على قيام المشروع وعدم وضعهم أمام الأمر الواقع وقسرهم على التهجير .
2) حل مشاكل المهجريين المتوقعة قبل التهجير والغرق وتوفير كل سبل العيش الكريم والخدمات الضرورية من علاج وتعليم ومياه نقية ....ألخ .
3) تعويض المهجرين عن ممتلكاتهم تعويضاً مجزياُ .
4) ضرورة أن تتعدد الخيارات للمهجرين وعدم إرغامهم على خيار واحد .
5) إمكانية نظر محكمة الجنايات الدولية في حالة وقوع ما يتعارض مع هذه الموجهات باعتبارها جرائم ضد الإنسانية لان القضاء الجنائي الدولي هو رمز التضامن الإنساني.
فهل يا ترى وضعت مثل هذه الموجهات وكذلك الاعتبارات البيئية والإنسانية والثقافية في الاعتبار عند اتخاذ القرارات لإقامة السدود الجديدة ؟
لا ندري . ولكن إذا كانت مثل هذه الدراسات موجودة فلماذا لا تنشرها الدولة على الأقل لأولئك المتأثرين بإقامة تلك السدود ؟!!
هذه هي حقيقة السدود وحقيقة الأوجاع النوبية المتكررة من هذه السدود وهذا ملخص ما قلناه في الصفحات السابقة فقد قلنا :-
1) ان النوبة من نسل كوش بن حام بن نوح علية السلام .
2) ان النوبة أسسوا الممالك العظيمة في بعض أجزاء السودان .
3) ان النوبة ليست قبيلة وهم السكان الأصليين لشمال السودان ووسطه وجزء من شرقه وغربة .
4) ان اسم النوبة اقتصر على سكان أقصي شمال الولاية الشمالية فقط لأنهم حافظوا على الهوية النوبية بعد استعراب بقية المناطق .
5) ان تراث الحضارة النوبية تخص كل السودانيين لأنها تمثل تاريخ وحضارة السودان القديم .
6) انه من الظلم البين الفادح أن يطلب من النوبيين مرة أخرى التضحية بالجزء الأكبر من باقي أرضهم التاريخية وممتلكاتهم لبدء حياة جديدة لم يألفوها .
7) ان تهجير النوبيين قسراً سوف يحدث خللاً بليغاً في البنية الاجتماعية لمجتمعهم ويحرمهم من حقهم الطبيعي بالاحتفاظ بهويتهم وثقافتهم التي حافظوا عليها آلاف السنين .
8) ان النوبيين لديهم هواجس وشكوك من المعالجات الأمنية العنيفة التي قامت بها الدولة وعدم الكشف عن نتائج التحقيقات في أحداث كجبار وعدم تقديم الذين ارتكبوا جريمة القتل لمحاكمة عادلة .
9) ان النوبيين لديهم هواجس وشكوك من التكتم الشديد وعدم الكشف عن الدراسات التي تمت بخصوص السدود التي سوف تقام على أرضهم رغم ان الأمر يهمهم بالدرجة الأولى .
10) ان بعض أهم مصادر تاريخ وتراث وحضارة السودان مهددة بالانقراض الأبدي نتيجة إقامة السدود وان قيمة تلك الآثار لا تقدر بثمن .
11) ان سدي دال وكجبار ليس لتنمية المنطقة إطلاقاً لأنها سوف تجعل منطقة السكوت والمحس خالية من السكان لأنة لا توجد أراضي صالحة للنشاط البشري حول البحيرة إلا في منطقة واحدة .
12) ان سدي دال وكجبار سوف يبنيان فقط بغرض توليد الكهرومائية الرخيصة للشبكة القومية وتصدير الفائض عند اكتمال منظومة السدود المراد إقامتها .
13) ان المنطقة النوبية زاخرة بالموارد الاقتصادية لتنمية المنطقة دون قيام تلك السدود .
14) ان إقامة مشاريع التنمية البديلة للسدود في المنطقة سوف تحقق عائد اقتصادي أفضل للدولة اكبر من إقامة السدود .
15) انه يمكن تنفيذ مشاريع التنمية البديلة لو خصص فقط جزء من الموارد المالية المخصصة لبناء السدود .
16) ان هنالك بدائل لتوليد الطاقة الكهربائية من الطاقة الشمسية أو حتى الحرارية وان الدولة يجب أن تضحي هي أيضاً بفرق تكلفة التوليد الحراري والمائي من اجل رفع الظلم عن النوبة الذين ضحوا من اجل مصر من قبل قسراً بأوامر حكام السودان .
17) ان إخلاء منطقة السكوت والمحس من السكان على طول أكثر من 300 كم على النيل سوف يشكل مخاطر للأمن الوطني السوداني .
18) ان الدولة يجب أن تعترف أن بعض مسئوليها قد ارتكبوا أخطاء إدارية وسياسية أدت إلى فقدان الثقة بين الدولة والمواطنين مما أدى إلى تفاقم المشكلة .
19) ان القرارات الخاصة بإنشاء السدود نفسها غير مبرأة من شبهة التسرع .
20) ان السدود خاصة في الأنهار الكثيرة الاطماء لها آثار وخيمة على البيئة والسكان أمامها وخلفها .
لكل هذا فإن لدي رجاء وأمل كبيرين أن يقف كل فعاليات المجتمع السوداني مع أهلهم النوبيين في محنتهم الجديدة بالمطالبة بتجميد قرارات إنشاء تلك السدود وإخضاعها لمزيد من الدراسات المتأنية بواسطة هيئة علمية تضم مختلف التخصصات لتوضيح مختلف الجوانب الايجابية والسلبية من إقامة هذه السدود ودراسة كل البدائل المتاحة وإعلان نتائجها للرأي العام حتى لا نندم مستقبلاً لأننا أهملنا جانباً من الجوانب الهامة عند اتخاذ قرارات إقامة تلك السدود حيث لا ينفع الندم .
والمثل النوبي يقول " أن تفعل أمراً وتندم عليه خير من أن لا تفعله وتندم ".
((ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين )) صدق الله العظيم

الشيخ النوبي
1/7/2008م


"منقول"